الأحد، 16 أبريل 2017

حلم ليلة شتاء – محمد الفاضل




أريكة متهالكة عفا عليها الزمن ، تداعت أركانها ولم تفلح  بقايا مسامير صدئة تناثرت هنا وهناك  من إصلاح ماأفسده الدهر ، لم تعد تقوى على حمل أصحابها وكأنها في النزع الأخير ، تصارع من أجل البقاء . تتوسط الغرفة  طاولة خشبية يعلوها الغبار ويحيط بها ثلاثة كراسي بالكاد تتماسك، تصدر صريرا عميقا يشبه الأنين عندما يجلس فوقها قاطنو ذلك  المنزل البائس. حل الشتاء ضيفا ثقيلا على المدينة وهو يفرض شروطه القاسية ولم يجد الأهالي بدا من الإذعان لسطوته. هجعت الخلائق وبدأ الليل يسدل أستاره، غلالة من أبخرة غشيت زجاج نوافذ البيوت العتيقة وعانقت أسطح المنازل وأوراق الشجر.

عقارب ساعة قديمة تتمطى  بإيقاع رتيب مثل قط كسول، دقائق قليلة وينتصف الليل ،كان الوقت يمر بتثاقل ، ليلة شديدة البرودة تبعث على القشعريرة ، مساءات كانون معروفة بقسوتها في مثل هذا الوقت من العام ، تجبر كل من يرتاد الشارع أن يمارس طقوسا من الرقص مع حركات سريعة للأيدي والأرجل في محاولة مضنية لبث روح الدفء في الأوصال ولكن دون طائل.

خلف تلك الستائر الكالحة التي يمتطيها الغبار  يلوح شبح امرأة  ينعكس  ضوء شمعة خافت على قسمات وجهها الحزين المشوب بالخوف والقلق، توزعت الكدمات والهالات الزرقاء تحت عينيها الغائرتين، جبل من الهموم يربض فوق صدرها وعلى مقربة منها يرقد ولدها الوحيد فوق فراش بال ، تكور حول نفسه بعد أن سرت البرودة في سائر جسده النحيل ، لايستره سوى بطانية قديمة ، يتقلب يمنة ويسرة عله يقهر جنرال البرد ، الذي طالما هزم أعتى الجيوش وأجبرها على التقهقر والانسحاب.

صمت موحش يشبه صمت القبور يخيم على المكان ، الضباب يلف طرقات المدينة ويزرع الخوف ، وماهي سوى لحظات ، حتى سمع قرع شديد على الباب مع سباب وشتائم  مصحوبة باللعنات ، هرعت الأم المسكينة وهي تتخبط من شدة الخوف وكأنها تسعى إلى حتفها ، ارتعدت فرائصها، فتحت الباب بيدين مرتعشتين ، بدأ يمطرها بسيل من  الشتائم ويصفها  بأقذع العبارات والمسكينة تحاول أن تهدئ من روعه مخافة أن يستيقظ ولدها الوحيد . لم يفلح الليلة في بيع كل علب المناديل فعاد مبكرا على غير عادته من شدة البرد بعد أن هده التعب وهو يذرع الشارع جيئة وذهابا.

- كيف يمكن للحب أن يسحق تحت عجلات دوامة الحياة ؟ أين كلمات الرومانسية ونظرات الوله ، لقد تغير كل شئ ، كان يهمس في أذني مترنما ، أنت معشوقتي وحلم حياتي ، أين ذهبت كل تلك المشاعر؟ كانت تحدث نفسها.
- أين العشاء... أيتها الحقيرة؟ ألا يكفي أني أعمل كي أطعمك أنت وولدك الكسول. أخرجها ذلك الصوت من حلمها.

 بدا مثل الثور الهائج وهو يزبد ويرغي، تطاير الشرر من عينيه ، نزع حزامه وبدأ يذيقها شتى صنوف العذاب وهي تتوسل له بعيون دامعة وبحق العشرة التي بينهما أن يتوقف ولكنه لم يتورع عن المضي قدما وقد شعر بالانتشاء. لم يجرؤ الصبي على الحركة وبدأ يرتجف مثل أوراق الشجر القرمزية عندما تتلاعب بها رياح الخريف.

- هل بعت كل علب المناديل ؟ أرني كم معك ؟
-ولكن ، ولكن ،  كانت الليلة ... بدا الصبي متلعثما وهويجاهد كي ينجو من العقاب حيث أيقن أن دوره حان.

كانت الأم ترقب المشهد والألم يعتصر قلبها الغارق في لجة الأحزان ، مثل قطة تلعق جراحها النازفة ، لم تدر كيف واتتها الشجاعة الكافية  لمجابهة ذلك الوحش الذي تجرد من إنسانيته ، وقفت بجسدها المثخن بالجراح  لتحول بينه وبين فلذة كبدها.
- حسنا ، أيها الأوغاد ، سنرى غدا ، لاتفكر بالعودة إلى البيت دون أن تبيع كل علب المناديل ، صرخ  مهددا بقبضته .

في ذلك المساء الكئيب، خلت الشوارع من المارة ماعدا مرور بعض المركبات بين الفينة والأخرى ، الجوع والبرد ينهشان جسده النحيل ، لم يجد الصبي بدا من تقطيع الصندوق الكرتوني الذي يضع فيه علب المناديل ، طفق يشعل النار ليلتمس الدفء الذي حرم منه. في الجهة المقابلة من الشارع الذي يقطنه الأثرياء ، خلف الستائر المخملية ، راح يتأمل الأضواء التي كانت تتلألأ وتتراقص مثل النجوم  المعلقة في السماء ، تخيل نفسه في ذلك المكان الساحر.

كل شئ يخطف الأبصار، جلس في مقعده الجلدي الوثير مرتديا بيجامته القطنية  أمام الموقد وهو يرقب قطع الحطب المشتعلة ، رائحة شواء الكستناء يسيل لها اللعاب ، يرتشف كوبا من الشاي الساخن ويلتهم قطعة التورتة بتلذذ ، سرحت عيناه  في الأفق البعيد  وقد ارتسمت فوق ثغره ابتسامة رضا. بيد أن جسده  كان متخشبا ، وشفاهه تكسوها زرقة داكنة.


Read more ...

الأحد، 9 أبريل 2017

قارب الأحلام – محمد الفاضل




جلست والدتي على الأريكة وهي في حالة صدمة وذهول ، غير مصدقة أنني سوف أهاجر، لقد أزفت ساعة الرحيل ، هي تعرف أن كل من يهاجر لن يعود ويصبح في طي النسيان ، مجرد ذكرى وصور تعلق على الحائط أو داخل ألبوم صور ثم ماتلبث أن تذوي رويداً رويداً وتنوب عنها المكالمات والرسائل ، ألم يمزق أحشاءها ومشاعر يتم بدأت تجتاح روحها المتعبة ، بالرغم من وعودي المتكررة أنني حالما استقر سوف أستقدمها ولن أتركها نهباً للوحدة والهواجس . حاولت أن تبدو قوية، ولكن عاطفة الأمومة كانت جارفة ، فجرت بركاناً من الشجن فبدأ صوتها يتحشرج وانهمرت دموعها الحارة.

- يا تيتة نحن بنحبك كتير وما راح نتركك أبداً ، بدت عبارات الأولاد مثل سكاكين تنغرز في الخاصرة .

أسقط في يدي ولم تعد رجلاي تقويان على حملي وبدأت أجهش بالبكاء ، مما ضاعف من ألمها .
- أنا أعرف يا حبة القلب وحشاشة الروح أنك بعت كل ماتملك واقترضت مبالغ من إخوتك ، ولكن فراقك يقتلني ، ومع ذلك لن أكون حجر عثرة في طريق مستقبلك . اذهب يا ولدي وعين الله ترعاك .

في تلك اللحظة أحست وكأن قلبها اقتلع من جوفها ، دسست رأسي في حجرها وأخذت تربت على كتفي وتداعب خصلات شعري فما زلت طفلها المدلل، تذكرت كيف كانت تجثو عند سريري وتقرأ لي ماتيسر من القرأن عندما كانت تداهمني نوبات الربو .
كان وداعاً حزيناً يشبه المأتم، مازلت أذكر كيف تعلق أصغر أولادي،أسامة بطرف ثوبها . رحلنا وأخذنا معنا قطعة من روحها فظل جسدها يجتر الذكريات.

بدأت رحلة المعاناة والسفر نحو المجهول ومحطات الشتات ومرافئ الوداع ،  تلقي بظلالها الرمادية على أفراد العائلة ، بعد انتظار طويل تهللت وجوه المهاجرين بوصول  قارب الأحلام ، أجساد أشباح تتسلل في الظلام يحدوهم الأمل بمستقبل واعد ، قارب صغير لايتسع سوى لأعداد قليلة ، ولكن تم حشر الجميع وكأنهم مجموعة خراف. رائحة الخوف والعرق تملأن المكان ، كان الأولاد يجلسون عند مقدمة القارب وقد جفت حلوقهم من العطش، بعد مضي ساعات والقارب يمخر عباب البحر، بدأ الماء الصالح للشرب ينفذ .
 أبو الخير رجل يناهز الستين من عمره ، ترك قريته مع زوجته بعد أن فقد جميع أولاده وقرر البحث عن وطن ، أشعل لفافة تبغ وشرع يمجها بنهم وهو ينفث الدخان متطلعا نحوالأفق البعيد بعيون دامعة. أما زوجته ، أم الخير فقد كانت تقرأ الأدعية والأذكار،خلفهم تماما شاب في مقتبل العمر يحتضن عروسه بترقب وخوف بالغ، في الهزيع الأول من الليل اكفهرت السماء وعلا الموج وبدأ القارب الصغير يترنح مثل قطعة فلين .انتشر الهلع وتعالت الأصوات بالصراخ والدعاء ، لاذ الأطفال بأمهاتهم مثل فراخ اليمام .

حاول الصغار أن يتشبثوا بأي شيئ يصادفهم ولكن دون جدوى ، تراخت قبضاتهم الصغيرة مع ارتفاع الأمواج كالجبال وبدأت تكتسح سطح القارب. كانت زوجتي تحتضن إحدى بناتي ولما أحست بالغرق سلمتها إلى بعد أن رفعتها إلى الأعلى ، ترقرقت الدموع في عينيها وهي تلاحقها بنظرات مودعة ، تعلقت الصغيرة برقبتي بكل ماتملك من قوة ولكن خارت قواها . على مقربة كان الأولاد متعلقين بلوح من الخشب والأمواج العاتية ترفعهم عاليا ثم تسقطهم في لجة البحر الهائج والقارب يتمايل يمنة ويسرة ، الخطر يحدق بالجميع والظلمة تعم المكان.

-          ياأبي ، دخيلك مابدنا نموت... ياأبي لاتتركنا لحالنا ، نحن مابنعرف نسبح ، كانت صرخات أطفالي تشق عنان السماء فقد بلغت القلوب الحناجر وزاغت الأبصار.
طفقت أبحث عن صغيرتي بجنون وأنا أصرخ ، يابحر...  كيف طاوعك قلبك على ابتلاع فلذة كبدي، تراءت لي صورة أمي وهي تطبع قبلة فوق جبيني ودموعها تبلل وجهي بعد أن داهمتني نوبة ربو. حاولت الوصول إليها والتعلق بيديها ولكنها كانت تبتعد حتى بدت كنقطة صغيرة في الأفق البعيد، خلف البحور البعيدة وتحت جنح الليل كانت أجساد هزيلة تتهيأ لمغادرة الجزيرة خلف موانئ الشتات وهي تمخر عباب المجهول ومجموعة نوارس تنقر أجسادا طافية.


السويد – 28 / 6 / 2016









Read more ...

السبت، 1 أبريل 2017

أحلام مؤجلة – محمد الفاضل



وسط المروج الخضراء وحقول سنابل القمح الذهبية ، وتحت ظلال أشجار اللوز والزيتون ، في تلك القرية الحالمة على كتف رابية ساحرة والتي شهدت قصة حب جارف بين حسناء وقاسم ، تكللت بالزواج الذي جمع بين قلبيهما ، ثم من الله عليهم بطفل جميل ،عمت الفرحة أرجاء البيت ومع مرور الأعوام أضحت حسناء أكثر تعلقاً به ، أصبح أحمد الشمعة التي تنير دياجير عمرها  ولم تألوا جهداً في تربيته وتلبية طلباته. في ذلك اليوم المشؤؤم فقدت الأم توأم روحها وسندها الوحيد في حادث سيارة ، حيث شكلت تلك الواقعة منعطفاً هاماً  في حياتها.
 كانت حسناء محط أنظار رجال القرية قبل زواجها والجميع يخطب ودها ، ولكن قلبها اختار قاسم . مع مرور الأيام أحست الأم بعبء المسؤولية وبدأت الهموم تثقل كاهلها  وأعباء الحياة تضغط على أنفاسها . رفضت كل عروض الزواج بعيد فقد زوجها ، وانكبت على تربية أحمد الذي أصبح محور حياتها وزهرة في حديقة قلبها . كانت تجد لذة في شم عطره العالق في ملابسه حين تغسلها ، ولطالما قربتها من أنفها حتى تمتلئ رئتيها بأنفاسه  .

لم تجد بداً من الخدمة في البيوت في سبيل تأمين لقمة العيش لولدها ، ومع غلاء الأسعار قررت أن تشتري  ماكينة خياطة وكانت تواصل الليل مع النهار وهي تعمل بدون كلل ، كبر أحمد وبدأ يرتاد الجامعة في المدينة التي تبعد ساعتين عن القرية . في ذلك المساء انتابتها نوبة سعال حادة وكم تمنت وجود أحمد بقربها ليخفف عنها ويمسح على جبينها .
 قررت أن تخف الأمر عنه وهي تقنع نفسها بأنه مجرد عارض وسعال سرعان مايزول . تخرج أحمد وبدأ يعمل في شركة مرموقة في المدينة وأصبح يتغيب معظم الوقت بحجة انشغاله ، شعور الوحدة كان يقتلها شيئاً فشيئاً ، مثل السم عندما يتسرب في الجسم فيصبح سقيماً . بدأت نوبات السعال تتكرر وفي أحد المرات بصقت دماً . قرر أحمد أن ينتقل للعيش في المدينة ولم يجد صعوبة في اختلاق الحجج . وافقت الأم على مضض والألم يعتصر قلبها ، حتى أنه لم يلحظ هزالها الشديد وعينيهاا الغائرتين من شدة السهر وهي تعمل فوق ماكينة الخياطة .

في ذلك المساء البارد ، كانت حسناء في شوق عارم لضم ولدها الوحيد ، احتضنت الوسادة وهي تتأمل صورته عندما كان صغيراً ، قربتها من صدرها وهي تسعل دماً ، سافرت مع غيمة بيضاء نحو الأفق البعيد . لتمطر فوق الحقول في مكان بعيد . بعد مرور عدة أيام زار أحمد والدته بعد أن أحس بوخز الضمير ، دلف إلى الغرفة مسرعاً وقد كانت ممسكة بصورته وقد أبيضت بشرتها ولم تبد حراكاً .


السويد 17 / 7 / 2016





Read more ...